إلى أين نحن
ذاهبون؟ ماذا أصابنا؟ أين الخطأ لنصل إلى ما نحن فيه؟
كيف يمكن أن نحتفظ بصفاء الذهن وبرود الأعصاب لتقصّى ما حدث لنا خلال العام المنقضي وتحليله والتمعّن فيه ؟ ومن بمقدوره أن يتذكر ذلك الكمّ الرهيب من الأنباء التي يُقاس منسوبها باليوم وليس بالسنة؟
سنةُ تهاوي مؤسسات الدولة
لا نكاد نتذكر
بالليل بم ابتدأنا يومنا ولا على أية فاجعة أمسينا. تتواتر الأحداث, تتطوّر,
أغلبها مفزع, وقعُها يُحطّم ما تبقّى من أعصابنا ثم يأتي على هيكل التحليل الذي ظننّاه
المدخل المناسب إلى فهم المأزق الذي نحن فيه وسبل الخروج منه.
هي سنة يُجمع
التونسيون على أنها الأحلك منذ ما قبل الثورة بزمن بعيد. غلاء حيّر حتى الميسورين,
شحّ في المواد الأساسية وصل حد انقطاع في التزويد لم يعرف له مثيلا جيلٌ كامل من
الخمسينيين, تردّ غير مسبوق للمرافق العامة بلغ حد الانقطاع المطوّل للماء
والكهرباء في قيض الصيف, تكدّس القمامة أينما اتّفق, تسيّب طال الامتحانات
والمناظرات الوطنية, عودة مدرسية متعثرة لم تشهد لها تونس المستقلة مثيلا, مخدرات
اجتاحت حتى الإعداديّات, شبكات إرهابية عالمية ترتع على أراضينا وتجعل منها قاعدة
عملياتها و بدأت تستقطب حتى من جيشنا, أسلحة قتالية تجتاح القرى والمدن الكبرى.
هذا اجتماعيا, أما
سياسيا, فالانتقال الديمقراطي متوقف أو لعلّه في أحسن الحالات يمتطي صهوة سلحفاة
عرجاء. لا دستورٌ أُنجز ولا تقدم يذكر في إرساء مؤسسات القضاء والإعلام المستقلين.
أمّا هيئةُ الانتخابات, فإنه في ظل تناحر حلفاء الحكم قد يتزامن بعثها مع بعث
المسيح عليه السلام. كما ينبئ ضعف مسودّة الدستور وتصلب المواقف بخصوص نظام الحكم
بمزيد إطالة المرور إلى انتخابات أصبحت بدورها محل شك في ظل تهاون الدولة بالعنف السياسي
المنظم بل وتأييده من طرف اثنين من الأحزاب الحاكمة. أما مؤسسة الحكومة فإنها أشبه
شيء بقصر من الورق... تألفت على أساس العلاقات العائلية و"الشرعية السجنية"
والولاء وعلى أساس حصص حزبية لا يفقه منطقها إلا ذلك المؤدب الشهير الذي قسّم
الدجاجة اعتمادا على قاعدة "الأفخاذ والصدر لي والبقية نوزّعها على
الأولاد" (بتصرف)... سنة كاملة لم تأبه فيها الحكومة لا لضعف أداء بعض
أعضائها ولا للتعطل الذي سببه بعضهم الآخر في مجالات عمل ليس لهم بها دراية ولا
حدس سليم يجعلهم يتخيرون الكفء ليساعدهم على ذلك. بل لا يتوانون عن تبرير فشلهم
بوجوب تلافي "الخراب" الذي وجدوا عليه الأمور منذ تولّيهم. بقيت الحكومة
سجينة ذات المنطق الأعوج الهش مخافة أن ينهار القصر لو طاله أي تحوير يعلي قيمة
الكفاءة ويقوّض, لا قدّر الله, الأواصر العائلية أو يذهب بريح الولاء أو يشكك في
أولوية التمتع بمزايا الحكم لمن عانى ويلات السجون.
ماذا أوصل أوضاعنا إلى هذا الدرك من السوء؟
لكن كيف يمكن,
أمام تراكم هذه المعضلات في سنة وحيدة, أن نفكك رموز أزمتنا ونتعرف على العامل الأهم
الذي أوصلنا لما نحن فيه والذي قد يُودي بنا وبكل أحلام الرّفاه والعدالة والحرية
التي بنينا؟
لن يجدي نفعا أن نُعزي
ذلك إلى الظرف الاقتصادي الصعب ولا لطبيعة الانتقال السياسي المحفوف بالمخاطر لا
محالة, ولا لعصيّ المعارضة التي تترصد عربة الحكومة... ثلاثية العجلات (واحدة لكل حزب...).
إنها مسبّبات مستهلكة, أُفرغت من مدلولها من فرط الاستعمال...
قد تكون الأيام
الأخيرة من سنة 2012 أتت بالجواب وأسقطت آخر ورقات التوت عن المتدثرين بالشرعية
لإخفاء سقوط أخلاقي لا يكاد يصدق من فرط وقاحة من يأتونه وفجاجة التبريرات التي
يتوارون بها...
السقوط الأخلاقي
أتت الأيام
الأخيرة بأحداث متزامنة يكمن في خطورتها السببُ العميقُ والأساسيُ الذي من أجله
يمكن أن نقول أن مواصلة الحكم بهذا الشكل وبهذه العقلية وبهؤلاء الأشخاص إنما تؤذن
بخراب الدولة. فقد يكون احتدام الأزمة الاقتصادية أو انفراجها من محددات الانتقال
السلس إلى الديمقراطية إلا أن السقوط الأخلاقي لو أصاب النخبة الحاكمة فإنه مؤذن
بزوال الدولة لا محالة.
لنتذكر... حادثة
قيام وزير الخارجية بنفقات باهظة من المال العام على منافع لشخصه, هو في الأصل في
غنى عنها من ناحية, ومن ناحية أخرى يتقاضى تعويضا عنها في جرايته. ثم أنها لم تكن
لتجوز له في أي حال من الأحوال بنص القانون. الوزير أنكر مسألة تبديد المال العام
وانخرطت وزارته في التأكيد على السلامة القانونية لتصرفه وتذرّع محاميه بنص قانوني
تبين أنه خاطئ ثم أصدرت الحكومة بيانا يسانده ويهدد ضمنيا عضو الحكومة الذي يستراب
في أنه سرّب الخبر للصحافة. أي أن تبديد المال العام أصبح من التفاصيل أمام
الانضباط السياسي للحلفاء. ولم يكتف الوزير بتفنيد شبهة تبديد الأموال العامة بل
ذهب إلى التصريح بأن المبالغ سددت من خزينة سرية خاصة بجنابه وكأن ما يمنعه
القانون على الوزير "جهرا" يُقبل أخلاقيا أن يُموّله من المال العام
سرّا !!!! أية أخلاق
تسمح لرجل دولة أن يفهم روح التشاريع بهذه الشاكلة.
يُقاس مدى التردّي
الأخلاقي بتضافر طاقات الوزارة ورئاسة الحكومة وحتى صهر الوزير. نعم إن للوزراء
أصهارٌ تحميها !!! ليس لإعطاء المثال في التجرد والتدقيق في مآل المال
العام بل لتبرير الخطأ بتوظيف الدين والمساجد وحتى تاريخ أمة محمد للتستر على المخالفين.
كل ذلك والحكومة تناقش ميزانية الدولة وتبرر تقلص النفقات بشح المداخيل.
ولقد زادنا يقينا
بانحدار الأخلاق لدى رجال الدولة, أو من يظنون أنفسهم كذلك, تصرفُ الحكومة مرة
أخرى في قضية مخالفة وزير الخارجية لقانون المحاسبة العمومية وظهور مستشاره الهمام
الذي انبرى يفسر الفعلة بأنها من مقتضيات سرية التعامل مع دولة أجنبية ترغب في أن
تنفرد بلادنا بكرمها الحاتمي من دون بقية الدول خصوصا وأنه كان هو من توسط لإبرام
الاتفاق...
هكذا أضحت
معاملاتنا الخارجية, بعد 60 سنة من الاستقلال وبناء الإدارة الحديثة, بيد أناس
يتصرفون بمصالح بلادنا وصورتها كما التنظيمات السرية ويمولونها بأساليب شبكات
تبييض الأموال ومنطقها ويُتحدّث لشعبها المتعلم كما يُتحدّث مع البدو الرحل أو
السّذّج من جمهوريات الموز...
في الأثناء وبينما
نحن مصدومون نجترّ ما عَسُر هضمه مما نسمع ونشاهد بخصوص هذين القضيتين يأتينا
الخبر اليقين عن ذهاب الأخلاق إلى الجحيم. ذلك أن المجلس التأسيسي المزهوّ بشرعيته
التي تخطت عتبة العام رغم كيد الكائدين قرر مجازاة نفسه على هذا النصر المبين بأن
ينمح نفسه الزكية ما حرمته إياه المحكمة الإدارية. ولمثل هذا المأرب النبيل
ابتدعوا تخريجا "قانونيا" يصعب على المحكمة الإدارية نقضه وهو أن يدمجوا
زيادة سمينة في منحهم صلب قانون المالية. أليسوا أسياد أنفسهم؟ يا لها من عبارة
سحرية مُسكرة !!! السكر
الحلال طبعا... وهل يقدر على غير هذا السكر من انتخبوا بفضل قولة لا إله ألا الله
وهم أغلبية المصوتين؟
نجحوا في المصادقة
على هذا القرار دون حياء ولا وجل, على مشارف الفجر من ليلة هي أشبه بليلة سقوط غرناطة حين فرّط أصحاب السيادة
في آخر بنود العقد الأخلاقي الذي يربطهم بشعبهم مصدر السيادة من أجل مال زائل لن
يزيل عنهم أضعافُه خزي تلك الفعلة المشينة... لقد صادقوا على الزيادة لأنفسهم بعد
رفضهم لكل التعديلات الجبائية المقترحة لفائدة ضعاف الدخل... أقرّوا الزيادة
لأنفسهم في غياب عدد كبير من النواب وحضور ما يكفي منهم لحصول النصاب والمصادقة. ومن
بين المنح المضافة للنواب 900 دينار شهريا بعنوان السكن وهو دون شك مبلغ أرفع
بكثير من معدل الإيجار بالضواحي الراقية للعاصمة...
الخطيئة المؤسسة
أبعد هذا السقوط
سقوط؟ أبعد هذا سيُفترض في الشعب احترامُ المؤسسات المنتخبة؟ أبعد هذا سنصدق
كفاءتهم لإصلاح ما فسد من مؤسسات الدولة؟ هل الفساد أن تتسخ اليدان بالاستيلاء على
المال العام دون وجه قانوني أو أن تُطوّع "أياد نظيفةٌ" القانونَ للتمتع
غير المبرر بالمال العام؟ نحن إزاء غياب تام لثقافة الدولة وحلول ثقافة الحيل
الفقهية والتنظيمات السرية والمجتمعات الرعوية وثقافة الغنيمة وأخطر من ذلك أمام
غياب تام للواعز الأخلاقي الفطري البسيط...
ولقد بدت بوادر
السقوط الأخلاقي جلية منذ أيام المجلس التأسيسي الأولى ولم نأبه, عندما نكث حزبان
من "الترويكا" عهدهما بالالتزام بأجل السنة لإنجاز الدستور. تذرّعا
آنذاك بأن العهد الممضى ما هو "إلا التزام أخلاقي" بينما شرعيتهما
الانتخابية تعطيهما من السيادة ما يبرّر التملص مما وعدا به. لقد أقرّا منذ ذلك
الحين بأن مقتضيات السياسة تعلو على الأخلاق. لم يأبه إلا قلّة لخطر الانحراف
بالسلطة التأسيسية الذي كان يتهددنا.
والآن؟؟
اليوم وقد انتفت
تهمة محاكمة النوايا وبان ما كان خافيا, لا بد من تجند المجتمع المدني لمطاردة كل
أنواع الفساد, السافر منه والمبرقع بالشرعية, وللضغط من أجل إنهاء الفترة
الانتقالية بأخف الخسائر على مؤسسات الجمهورية. وإن فتح حكامنا الباب بفساد
تصرفاتهم لشتى أنواع المقاومة فإنه لا يخفى على لبيب أن هناك من يتصيد مظاهر العنف
للانحراف بالمسار الديمقراطي ولذلك وجبت اليقظة والتصرف بحكمة.
أما أهم ما يستخلص
من هذه الأحداث فهو اليقين أن الترويكا وإنقاذها أو زوالها لم تعد شأنا ذا بال
يستحق الجدل كما في السابق باعتبار أن ممارساتها وأخلاقياتها جعلتها جزءا من
الماضي وليس المستقبل...
إن التونسيين وهم يستحثون زوال هذه الفترة الانتقالية لا بد لهم من النظر إلى المستقبل للخروج من هذا الاكتئاب الجماعي الذي مرده الشك في صحة كل ما اختاروه لحد الآن وبالتالي الشك في أنفسهم. ذلك الشك الذي انبنى عليه التسليم البسيط لدى البعض منهم في انتخابات 2011 بأن لا خلاص للبلاد إلا مع "نظيفي الأيدي" والورعين. ولعل تفطن التونسيين لسلامة منظومتهم الإدارية السابقة لحكم الترويكا دليل على أن لا خلاص إلا بسلامة المؤسسات وأن بالبلد من المؤسسات ما يمكن البناء عليه لضمان الصالح العام ولاستعادة الحلم الجماعي وتصور المستقبل في تصالح مع النفس ومع التاريخ المستنير لهذا البلد وقدرة شعبه ونخبه على ابتداع طريقهم نحو الحرية وإن بهزات سرعان ما ينتفضون منها أقوى من ذي قبل وأكثر وثوقا في قرب الخلاص.
سنية النقاش
الطريق الجديد, 05/01/2013